الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال: {ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء}، وقال تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} الآية وقال {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل} الآية، وقال {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة} الآية، وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس ومما يعقلها إلا العالمون} إلى غير ذلك من آي القرآن.وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال فقال: «ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرجوا: فالصراط الإسلام، والستور حدود الله، والأبواب محارم الله، والداعي القرآن» إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها صلى الله عليه وسلم. ومحل الكلام على أمثال القرآن وأمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقدم من الكلام على القرآن الكريم والأخبار.ثم هي على ضربين: قريب الفهم بظهور معناه، وكثرة دورانه بين الناس، وبعيد الفهم لخفائه، وقلة دورانه بين الناس. فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة مثل قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى، وهو مثل يضرب للترغيب في السير في الليل، والحث عليه؛ وأول من أرسله مثلاً خالد بن الوليد رضي الله عنه، قاله في صبح ليلة قطع فيها مفازة كانت في طريقه من العراق إلى الشام؛ وقولهم: ساء سمعاً فأساء إجابة. وأول من قال ذلك سهيل بن عمرو وكان تزوج صفية بنت أبي جهل فولدت له ابنه أنساً، فرآه الأخنس بن شريق الثقفي معه فقال من هذا؟ فقال سهيل ابني. فقال الأخنس حياك الله يا بني! أين أمك؟ فقال: لا والله ما أمي ثم، انطلقت إلى بيت أم حنظلة تطحن دقيقاً، فقال أبوه ساء سمعاً فأساء إجابة، فلما رجعا قال أبوه فضحني ابنك اليوم قال كذا وكذا، فقالت إنما ابني صبي وأنت لا تحبه. فقال: أشبه امرؤ بعض بزه، فأرسلها مثلاً. والبعيد من الفهم، مثل قولهم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر. وهو مثل يضرب لمن ينكر الأمر الظاهر عناداً. والأصل في ذلك كما ذكره المفضل بن سلمة الضبي أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكماً، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون علي، فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، فجرت مثلاً. ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به، والأسباب التي قيل من أجلها، لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى يفيد لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحداً، فكان يصير معنى المثل: إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر. وهو كلام مختل المعنى ليس بمستقيم.وقد أكثر الناس في تصنيف كتب الأمثال، فمن ذلك الأمثال لأبي عبيد، وهو مرتب على ترتيب الوقائع التي تقع فيها الأمثال. ومن ذلك أمثال الميداني، وهي مرتبة على حروف المعجم وفي آخرها جملة من أيام حروب العرب، إلى غير ذلك من كتب الأمثال المصنفة في هذا الباب: كأمثال الضبي، والقمي، وغيرها.وأما الأمثال الواردة نظماً، فهي كلمات استحسنت في الشعر، وطابقت وقائع عامة جارية بني الناس، فتداولها الناس، وأجروها مجرى الأمثال النثرية. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتمثل بقول طرفة: وهو نصف بيت مجموعه: ويروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرجه عن الوزن، ويحيله عن طريق الشعر، فكان يقول: «وياتيك من لم تزود بالأخبار» فراراً من قول الشعر المنزه عنه مقامه العي، وشرفه الرفيع، لكن ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: والمحرم عليه صلى الله عليه وسلم، إنما هو نظم الشعر دون إنشاده وسماعه. وقد بسطت القول على ذلك في كتابي المسمى بالغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع. في الفقه فراجعه هناك؛ ويروى أن عمر رضي الله عنه تمثل بقول النابغة: ثم قال: لمن هذا؟ فقيل له للنابغة، فقال: ذاك أشعر شعرائكم؛ والمثل السائر في قوله: أي الرجال المهذب؛ وأمثال ذلك مما تمثل به الصحابة رضوان الله عليهم كثير، ولذلك وقع في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم ما يستظرف ويستحلى كقول القاضي الأرجاني: يشير بذلك إلى المثل الجاري على ألسنة الناس في قولهم: في الزوايا خبايا وهو من الأمثلة المستفيضة على ألسنة العامة الشائعة بينهم، وقول ابن عبد ربه: وقول الآخر: قال الأصمعي: ولم أجد في شعر شاعر بيتاً أوله مثل وآخره مثل، إلا ثلاثة أبيات: بيت الحطيئة: وبيتا امرئ القيس: قال صاحب العقد: ومثل هذا كثير في القديم والحديث، ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعي، ومنه: البيت المتقدم؟ وهو من أشرف الأبيات وأعظمها باباً.وأما الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات، فكما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حين رأى خلاف أصحابه وتخاذلهم، تمثل بقولهم: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، يعني إنما خذلت يوم خذل عثمان؛ وحكاية هذا المثل أنهم قالوا: اصطحب أسد، وثور أحمر، وثور أبيض، وثور أسود في أجمة؛ فقال الأسد للأحمر والأسود: هذا الأبيض يفضحنا بلونه، ويطمع فينا من يقصدنا! فلو تركتماني آكله، أمنا فضيحة لونه؛ فأذنا له في ذلك فأكله؛ ثم قال للأحمر: هذا الأسود يخالف لوني ولونك ولو بقيت أنا وأنت، ظنك من يراك أسداً مثلي فدعني آكله، فسكت عنه فأكله؛ ثم قال للثور الأحمر: لم يبق إلا أنا وأنت، وأريد أن آكلك! فقال: إن كنت فاعلاً ولا بد، فدعني أصعد تلك الهضبة، وأصيح ثلاثة أصوات، فقال: افعل ما تريد، فصعد وصاح ثلاثة أصوات: ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض فجرت مثلاً.ويحكى أن عبد الملك بن مروان حج وقدم المدينة، فقال على المنبر: يا أهل المدينة إنكم قتل عثمان بين أظهركم فنن لا نحبكم! وأرسلنا مسلمة ابن عقبة فقتلكم في وقعة الحرة، فأنتم لا تحبوننا، فمثلنا ومثلكم كما قال النابغة: وهذه الحكاية مشهورة في الموضوعات على ألسن الحيوان، وهي أن أخوين هبطا بغنمهما وادياً يرعيان فيه، فخرجت حية من تحت الصفا وفي فمها دينار فألقته إليهما وأقامت كذلك أياماً، فقال أحدهما لا بد من قتل هذه الحية وأخذ هذا الكنز! فنهاه أخوه فلم يقبل، فخرجت فضربها بفأس في يده، فشجها وشدت عليه فقتله، فدفنه أخوه مقابلها؛ فلما خرجت قال لها لك أن نتعاهد على المودة وعدم الأذية، وتعطيني ذلك الدينار كل يوم؟ فقالت: لا! قال ولم؟ قالت لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك لا تصفو لي، وكلما ذكرت الشجة التي في رأس لا أصفو لك.
وقد اشتهر النصف الثاني من هذا البيت حتى جرى مجرى المثل، ولعه كان مثلا سائراً قبل أن ينظمه ابن دريد.ومنه قول الشيح جمال الدين بن نباتة رحمه الله من توقيع بنظر مدرسة بعد أن قدم أن أهلها رفعوا قصصهم في طلب ذلك الناظر: وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللسان، وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب، ومن وجد الإحسان. يريد البيت المشهور: وقد أتى فيه بالاكتفاء، فزاد في كلامه حسناً وطلاوة.وأعلى منه وأوقع في النفوس قوله بعد ذلك في التوقيع المذكور فاقتضى علو الرأي أن يجاب في طلبه إليهم سؤال القوم، وأن يتصل أمس الإقبال باليوم، وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه، بعد ما مضت عليها من الدهر ملاوه، وهذه المدرسة لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعي: مدارس آيات خلت من تلاوه.ومن ذلك قول المولى علاء الدين بن غانم في قدمة باسم مظفر الدين غانم، وقد صرع لغلغة، وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه، الحمد لله الذي ظفر المظفر بإصابة الواجب من الطير، ووفر من السعادة حظ من أصاب ووافق الصواب فيمن انتمى إذ تشرف به وتميز على الغير، وخفر من أسراه، إلى من يحمد لديه صبح سراه إذ يصبحه من بشره وبره كل خير. أشار في القرينة الأخيرة إلى المثل السائر من قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى، وقد تقدم أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه.وما استعمله أهل الصناعة من أمثال المحدثين نثراً قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في وصف خطيب من جملة توقيع: ومن إذا قام فريداً عد بألف من فرائد الرجال تنظم، وإذا أقبل في سواد طيلسانه، قيل: جاء السواد الأعظم. فاستعمل المثل السائر في قولهم: السواد الأعظم يريدون الجم الغفير، وهو من أمثال المحدثين، وحسن ذلك لمناسبة لبس الخطيب السواد على ما جرت به العادة، وإن كان خلاف السنة: كما صرح به الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله من أصحابنا الشافعية.ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم، وهو: وأظهر كل منهما ما كان يخفيه، فكتب وأملى، وباح بما يكنه صدره، والمؤمن لا يكون حبلى. فاستعملت المثل في قولهم: المؤمن لا يكون حبلى وهو من أمثال المحدثين إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وقد تستعمل أمثال المحدثين في الشعر أيضاً فتجلو ويروق موقعها ويستظرف، كما قال القاضي الأرجاني:
|